أميل إلى حرمة حبس الطيور كالبلابل والكناري في الأقفاص ، لأنه سفه وبطر وتعذيب ،أَفَيَحْسُنُ بِعَاقِلٍ أَنْ يُعَذِّبَ حَيًّا لِيَتَرَنَّمَ فَيَلْتَذَّ بِنِيَاحَتِهِ !
والطُّيورَ أمَّة من الأمَمِ كما في قوله تعالى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (سورة الأنعام ، آية : 38 ) .
فأنَتَ يا مَنْ تَحْبِسُ طائراً في قفَصٍ تَتَمَتَّع بزعمِكَ بِصَوته وَشَكله الْحَسَن ، ورُبَّمَا أنه يَشكوكَ إلى رَبِّهِ وخالقِهِ الذي أعْطَاهُ جَناحَيْن يَطير بِهِمَا فِي الفَضَاءٍ وأنتَ عَطَّلْتَ جَناحَيهِ بِحَبْسِكَ إِياه .
وحكمت بالتحريم على حبس الطيور وذلك للحديث والأثر والمعقول :
أما الحديث :
فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُود رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ ، فَرَأَيْنَا " حُمَّرَةً " ( الْحُمَّرة : طائر صغير كالعصفور . أنظر : « لسان العرب » لابن منظور ( 4 / 215 ) ) مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ (أيْ : ترفرف بجناحيها وتقرَّب من الأرض . أنظر : « عون المعبود » للعظيم آبادي ( 7 / 240 )، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ؟! ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ) (أخرجه أبو داود في « سننه » برقم ( 2657 ) و ( 5268 ) ؛ وقال النووي في « رياض الصالحين » ص ( 367 ) : ( إسناده صحيح ) .
تأمَّلْ قَولَه صلى الله عليه وسلم: ( فَجَعَ ) تَعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الطُّيور تَتَألَّمَ حَتى وَصَفَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْحُمَّرَة بِأنَّهَا ( مَفْجُوعَةٌ ) ! ، وإذَا كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَينبغي أَلاَ تُفْجَعُ بِحَبْسِهَا ؟! ، وَمَا مَصْلَحَةُ فَاجِعِهَا ؟! ، إِنهُ التَّسَلِّي بِحُزْنِهَا وَنُوَاحِهَا ! ؛ فيَتَنَبَّهْ .
وأما الأثر :
فقد قَالَ الْحَافِظُ الْمُحدِّثُ أبو نُعَيم ~ : حدَّثنا سُلَيمَان بنُ أحْمَدِ الطَّبَرَانِي - وَهُوَ صَاحِبُ الْمَعَاجِمِ الْحَدِيثِيَّةِ الثَّلاَثَـةِ الْمَعْرُوفَـةِ - ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عبدِ العَزِيـزِ ، حَدثنا عَـارِم أبو النُّعْمَـان قالَ :
أتَيتُ « أبَا مَنْصُور » أعُوُدُه فَقَال لِي : بَاتَ سُفْيَانُ الثَّـوْرِي في هذا البيتِ وَكانَ هَهُنَا بُلْبلٌ لِابْنِي ؛ فَقَالَ :
( مَا بَالُ هَذَا الطَّيْرِ مَحْبُوسٌ ! ، لَوْ خُلِّيَ عَنْـهُ ؟! ) .
فقلتُ : هو لِابْنِي وَهُوَ يَهَبُهُ لَكَ .
قَالَ : فَقَالَ : ( لاَ وَلَكِنِّي أُعْطِِيهِ دِينَارًا ) .
قال : فأخَذَه فَخَلَّى عنه، فَكَانَ يَذهَبُ فَيَرْعَى فَيَجِيءُ بالعَشِىِّ فيكُونُ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ .
فَلَمَّا مَاتَ سُفيانُ ، تَبِعَ جِنَازَتَهُ فَكَانَ يَضْطَرِب عَلى قَبْرِهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ بعدَ ذلك لَيَالِي إِلَى قَبْرِهِ ، فَكَانَ رُبَّمَا بَاتَ عَليهِ ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى البيتِ ، ثُمَّ وَجَدُوهُ مَيِّتاً عند قَبْرِهِ فَدُفِنَ مَعَهُ فِي القبرِ أوْ إلَى جَنْبِهِ. اهـ
« حلية الأولياء » ( 7 / 58 ) ؛ وانظر : « سير أعلام النبلاء » للذهبي ( 7 / 266 ) .
فتأمل قول سفيان رحمه الله تعالى : ( مَا بَالُ هَذَا الطَّيْرِ مَحْبُوسٌ ! ، لَوْ خُلِّيَ عَنْـهُ ؟! ) ، فَلَمْ يذكُر الرِّزْقَ كما في حديث المرأة وحبسها للهرة، وإنَّما ذَكَرَ الْحَبْسَ فَقَطْ لأنه عَذَابٌ ، ثُم إنه اشْتَرَاه وَأطْلَقَهُ ! ، ثُمَّ حَصَلَ هَذَا الأمرُ العَجِيبِ الذي فَعَلَهُ هَذَا الطَّائِرُ ! وهذه كرامة للإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى.
وأما المعقول :
فمَا أحسَن كَلاَمَ السَّفاريني رحمه الله تعالى فِي ذَلِكَ حَيثُ قَالَ :
( لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ كَثْرَةَ تَرَنُّمِ الطُّيوُرِ عَلَى تَذَكُّرِهَا إلْفَهَا مِنْ الأَمَاكِنِ الشَّاسِعَـةِ ، وَالأَغْذِيَةِ النَّاصِعَـةِ ، وَالْقَرِينِ الْمُصَافِي ، وَالْمَاءِ الْعَذْبِ الصَّـافِي ، وَالإِطْلَاقِ الرَّحِيبِ ، وَمُخَالَطَةِ الْحَبِيبِ ، مَعَ الْوَكْرِ الْمُشْتَهَى لَدَيْهَـا ، وَالأَغْصَانِ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا .
وَيُعْجِبُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حُبِسَ فِي قَلْعَةِ " جِلِّقِ " الْمَحْرُوسَةِ فَضَاقَ بِهِ الْخِنَاقُ ، وَبَلَغَتْ مِنْهُ الرُّوحُ التَّرَاقِ ، فَدَخَلَتُ عَلَيْـهِ عِنْدَ الْمَحَابِيسِ - وَكَانَ فِي الْحَبْسِ اثْنَـانِ مِنْ « الدَّيْرَةِ » - فَقَالَ لِي الأَعْرَابِيُّ :
" يَا سَيِّدِي : أَنَا أَقُولُ قَاتَلَ اللَّهُ حَابِسَ الطَّيْرِ فِي الأَقْفَاصِ ! ، فَإِنَّهُ لِشَجْوِهِ وَغُرْمِهِ يَتَرَنَّمُ وَالْحَابِسُ لَهُ بِشَجْوِهِ وَعَذَابِـهِ وَبِلْبَالِهِ يَتَنَعَّمُ ، وَلَوْ عَرَفَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ اللَّهِيبِ النَّاشِئِ عَنْ فِرَاقِ الْإِلْفِ الْحَبِيبِ وَالْمَكَانِ الرَّحِيبِ لَكَانَ إلَى اُلْبُكَا وَالْوَصَبِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى التَّنَعُّمِ وَالطَّرَبِ ، وَلَكِنْ هَانَ عَلَى الْخَلِيِّ مَا يَلْقَى الْمَلِيُّ " .
فَقُلْت لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت أَنْتَ هَذَا ؟! ؛ فَقَالَ : " قِسْته عَلَى نَفْسِي ، وَشَبَّهْت حَبْسَهُ بِحَبْسِي ! ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلاًّ مِنَّا نَشَأَ فِي الْفَلاَةِ الْوَاسِعَةِ ، وَالأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ " .
فَانْظُرْ حَالَ هَذَا الأَعْرَابِيِّ مَعَ جَفَائِهِ وَغَبَاوَتِهِ ، وَعَدَمِ مُخَالَطَتِهِ لِذَوِي الْعُلُومِ وَقِلَّةِ دِرَايَتِهِ ، كَيْفَ أَدْرَكَ هَذَا الْمُدْرَكَ ، تَجِدْهُ قَدْ أَصَابَ فِي قِيَاسِهِ وَأَدْرَكَ ) . اهـ « غِذاء الألباب » للإمام السفاريني ( 1 / 349 - 350 ) .
والله تعالى أعلم.