ما هي الساعة الأولى يوم الجمعة ؟
في " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن [ المقصود بالساعة في قوله من راح في الساعة الأولى]
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين أحدهما : أنها من أول النهار وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما . والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال وهذا هو المعروف في مذهب مالك واختاره بعض الشافعية واحتجوا عليه بحجتين . إحداهما : أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال وهو مقابل الغدو الذي لا يكون إلا قبل الزوال قال تعالى : ورواحها شهر [ سبأ 12 ] . قال الجوهري : ولا يكون إلا بعد الزوال . الحجة الثانية أن السلف كانوا أحرص شيء على الخير ولم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس وأنكر مالك التبكير إليها في أول النهار وقال لم ندرك عليه أهل المدينة . [أدلة من قال بأن الساعة الأولى من أول النهار وترجيح المصنف له ]
واحتج أصحاب القول الأول بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة " .
قالوا : والساعات المعهودة هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة وهي نوعان ساعات تعديلية وساعات زمانية قالوا : ويدل على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بلغ بالساعات إلى ست ولم يزد عليها ولو كانت الساعة أجزاء صغارا من الساعة التي تفعل فيها الجمعة لم تنحصر في ستة أجزاء بخلاف ما إذا كان المراد بها الساعات المعهودة فإن الساعة السادسة متى خرجت ودخلت السابعة خرج الإمام وطويت الصحف ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك كما جاء مصرحا به في " سنن أبي داود " من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة وتغدو الملائكة فتجلس على أبواب المساجد فيكتبون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام
قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات فقالت طائفة منهم أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء بل كلهم يستحب البكور إليها .
قال الشافعي رحمه الله ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنا . وذكر الأثرم قال قيل لأحمد بن حنبل كان مالك بن أنس يقول لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا فقال هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وقال سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " كالمهدي جزورا " . قال وأما مالك فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات أهو الغدو من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟ فقال ابن وهب : سألت مالكا عن هذا فقال أما الذي يقع بقلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح من أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة . ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك .
وكان ابن حبيب ينكر مالك هذا ويميل إلى القول الأول وقال قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه . وقال يدلك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الساعة الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس قال وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية .
هذا كله قول عبد الملك بن حبيب ثم رد عليه أبو عمر وقال هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا وتحريفا من التأويل والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء .
فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة
قال ألا ترى إلى ما في هذا الحديث فإنه قال يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك وقت طلوع الشمس لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير وفي الحديث " ثم الذي يليه ثم الذي يليه " . ولم يذكر الساعة . قال والطرق بهذا اللفظ كثيرة مذكورة في " التمهيد " وفي بعضها " المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " .
وفي أكثرها " المهجر كالمهدي جزورا " الحديث . وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك . وقال بعض أصحاب الشافعي لم يرد صلى الله عليه وسلم بقوله المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدي بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهو ترك الوطن والنهوض إلى غيره ومنه سمي المهاجرون
وقال الشافعي رحمه الله أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا .
هذا كله كلام أبي عمر . قلت : ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور أحدها : على لفظة الرواح وإنها لا تكون إلا بعد الزوال والثاني : لفظة التهجير وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر والثالث عمل أهل المدينة فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار.
قد يأتي الرواح بمعنى الذهاب
فأما لفظة الرواح فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو كقوله تعالى :غدوها شهر ورواحها شهر [ سبأ 12 ] وقوله صلى الله عليه وسلم من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح وقول الشاعر . نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي وهذا إنما يجيء إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو . وقال الأزهري في " التهذيب " : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت يقال راح القوم إذا ساروا وغدوا كذلك ويقول أحدهم لصاحبه تروح ويخاطب أصحابه فيقول روحوا أي سيروا ويقول الآخر ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها لا بمعنى الرواح بالعشي . قد يأتي التهجير بمعنى التبكير وأما لفظ التهجير والمهجر فمن الهجير والهاجرة قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر تقول منه : هجر النهار قال امرؤ القيس
فدعها وسل الهم عنها بجسرة
ذمول إذا صام النهار وهجرا
ويقال أتينا أهلنا مهجرين أي في وقت الهاجرة والتهجير والتهجر السير في الهاجرة فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة . قال الآخرون الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح فإنه يطلق ويراد به التبكير . قال الأزهري في " التهذيب " : روى مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه وفي حديث آخر مرفوع المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة قال ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شميل أنه قال التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شيء قال سمعت الخليل يقول ذلك قاله في تفسير هذا الحديث . قال الأزهري : وهذا صحيح وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس قال لبيد : راح القطين بهجر بعد ما ابتكروا
فما تواصله سلمى وما تذر
فقرن الهجر بالابتكار والرواح عندهم الذهاب والمضي يقال راح القوم إذا خفوا ومروا أي وقت كان .