[ حَول كتاب « إحياء علوم الدين » للإمام الغزالي ]
أما المآخذ التي اُتُّخِذَت ذريعة لنسف جملة من الحقائق التي لا شائبة فيها ولا مأخذ عليها، فألخص القول في ذلك بما يلي:
أولاً: أعود فأؤكد ما هو ثابت ومقرر من أن الغزالي، كأمثاله، من غير الرسل والأنبياء، غير معصوم عن الخطأ والسهو والجهالة. بل لا شك في أنه يوجد في كلامه ما قد يقتضي ميزان القرآن والسُّنَّة ردّه وعدم الأخذ به.
وإنا لواجدون في كتابه ( إحياء علوم الدين ) أمثلة من ذلك، قلَّت أو كثرت. من ذلك أنه يفيض بالأحاديث الضعيفة والموضوعة .. ومن ذلك أنه بنى على بعض هذه الأحاديث أحكامًا أخذ بها، وليس لها من مَدْرَكٍ ومعتمد إلا تلك الأحاديث الضعيفة أو الباطلة.
مثال ذلك تنبيهه الناس في أكثر من مناسبة إلى عدم الخوض في دقائق القضاء والقدر ومشكلاتها، اعتمادًا منه على الحديث الذي رواه الطبراني: ((إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا )) . والحديث ضعيف، بل منكر، لوجود يزيد بن ربيعة فيه.
ومثاله أيضًا ما قاله في ( الإحياء ) من استحباب أن يُبْدَأ في قصِّ الأظافر بالسبابة، لأن لها الفضل على بقية الأصابع، وروى في ذلك أثرًا عن علي رضي الله عنه، لم يصح.
هذا إلى جانب حكايات رواها عن بعض المتصوفة، الذين بالغوا وتزيدوا في حمل أنفسهم على الشدائد والمكاره، أو سلكوا في فهم الزهد مسالك مخالفة لما جاء به القرآن وبيَّنته السُّنة. وربما كان له في ذلك اجتهاد مخالف يؤيد أصحاب تلك الحكايات. وعلى كل حال فإنا لا نؤيد إلا ما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة، واتّفق على الأخذ به السَّلف الصالح وجماهير علماء المسلمين.
فأما جمهرة العلماء الذين عُرِفوا إلى جانب علومهم الغزيرة، بالإخلاص لوجه الله عزّ وجلّ، والذين يأخذون بالمبدأ المنطقي والديني القائل: ( ما منّا إلا من ردّ وردّ عليه ) ، والقائل: ( خذ ما صفا ودع ما كدر ) ، فقد عكفوا على الاستفادة من الخير الكبير والكثير، الذي يفيض به هذا الكتاب، الذي هو من أعاجيب المؤلفات النادرة في تاريخ التراث الإسلامي، ودعوا الناس إلى ذلك، واتّجهوا في الوقت ذاته إلى ما فيه من ثغرة الأحاديث الضعيفة والباطلة، فسدّوها بالتخريج والتصحيح، كما فعل الحافظ العراقي، وكما فعل ابن السبكي، إذ جمع في طبقاته سائر الأحاديث الضعيفة أو الباطلة الواردة في الإحياء، ونبَّه إليها. وبذلك حافظوا على الخير العظيم الذي يندر أن تراه في غير هذا الكتاب، ومَحَّصوه في الوقت ذاته من المآخذ والهنات. على أنك لو قارنت بين الخير الكثير المتنوع، والنادر الذي يزخر به الإحياء من المآخذ أو الأخطاء الموجودة فيه، لوجدت أن هذه المآخذ مهما بولغ في تصور كثرتها لا تزيد على 1% .
وأما القلّة من العلماء - وكلهم من المالكية المغاربة - فقد أصرّوا على أن يأخذوا الجيران بظلم الجار، وآثروا نسف البناء الصالح الذي يأوي إليه الفقراء والشاردون، بسبب أبواب غير محكمة، ونوافذ يتسرب إليها الهواء والغبار. فأصرّوا إصرارهم على ضرورة حرق كتاب ( الإحياء ) . وقد تمَّ إحراق نسخه في أكثر من مكان في جهات المغرب.
وهذا هو الفرق بين من يرى نقصًا في عظيم الفائدة واسع البركة والخير، فينشط لتكميل ذلك النقص، غيرة منه على الخير أن لا ينقطع عن الناس رفده، وتعاونًا مع صاحب ذلك الغرس على رعاية البناء ونشر كلمة الحق، وبين من لا يهمه إلا أن يعثر على النقائص ليجعل منها معولاً لتحطيم البناء كله، ويسعى لالتقاط مظاهر النقص كي يشهرها بين الناس ويرفعها فوق رماح من ضغائنه وأحقاده.
______________________________
(1) لعل من أبرز الناقدين عليه في هذا والمتسرعين في هذا الحكم تقي الدين ابن الصلاح. انظر طبقات الشافعية 6/220
(2) اقرأ قصة هذا المنهج في كتاب ( مناهج البحث عند مفكري الإسلام ) للدكتور علي سامي النَّشار.
(3) انظر ما قاله المازَري في حق الإمام الغزالي منتقدًا، طبقات الشافعية لابن السبكي 6/241
(4) المنقذ من الضلال بتحقيق محمود بيجو 56 و57
(5) المنقذ من الضلال: 54
(6) سير أعلام النبلاء 19
(7) سير أعلام النبلاء 19/339 ، وطبقات الشافعية لابن السبكي 6/243
(8) انظر سير أعلام النبلاء 19/333
(9) انظر تفصيل الأدلة العلمية العجيبة التي ذكرها الغزالي وناقش بها المعتزلة في المستصفى 1/58 طبعة بولاق.